السبت، 4 مايو 2013

مقامات النظر في مسائل العلم


قال الشيخ الفاضل محمد بن عمر بن سالم بازمول حفظه الله تعالى :
مقامات النظر في مسائل العلم :
كل مسألة علمية يمر النظر فيها على أربعة مقامات، يصل بعدها طالب العلم إلى معرفة الراجح في المسائل المختلف فيها .
 وهذه المقامات هي:
المقام الأول : ثبوت الدليل .
المقام الثاني : صحة الاستدلال بالدليل.
المقام الثالث: السلامة من الناسخ.
المقام الرابع : السلامة من المُعَارض.
وهذه المقامات تمر بها أي مسألة يطلب النظر والترجيح فيها.
مسائل العلم كثيرة ولكن من تأصيل طالب العلم أن يراعي هذا الأصل ؛ أنه إذا نظر في كل مسألة يراعي أولاً ثبوت الأدلة فيها ، ثم ينظر ثانياً في صحة الاستدلال فيها ، ثم ينظر ثالثاً سلامة هذه الأدلة من النسخ ، ثم ينظر رابعاً سلامتها من المعارض .
ونضرب على ذلك مثالاً :
نواقض الوضوء كثيرة ، نأخذ منها مثلاً : " نقض الوضوء بالقيء" ، فقرأ الطالب نقض الوضوء بالقيء، فقال: أنا أريد أن أنظر في هذه المسألة .
فنقول له : نعم ، أنظر في هذه المسألة هل ثبت دليل في أن القيء ينقض الوضوء ؟
قال :نعم أورد العالم حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ " ، وهذا الحديث حديث صحيح .
إذن ثبت المقام الأول " ثبوت الحديث" .
فينظر في المقام الثاني "صحة الاستدلال " ، هل يصح الاستدلال بهذا الحديث على أن القيء ناقض للوضوء ؟
ينظر هل في الحديث دلالة واضحة على أن وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أجل القيء ؟ لايوجد للحديث دلالة واضحة على أن وضوء الرسول كان من أجل القيء ، لماذا؟ لأن ليس فيه إلا مجرد الفعل ، والفعل المجرد عند العلماء لا يدل على الوجوب إنما يدل على الاستحباب .
ويعنون " بالفعل المجرد " : الفعل الذي يأتي من الرسول لا يقع بياناً لمجمل من آية أو حديث آخر .هل نأخذ من هذا الحديث أنه يجب على من قاء أن يتوضأ ؟ لا .لا نأخذ هذا من الحديث .
إذن نقول : هذا الحديث مع صحة دلالته على نقض الوضوء بخروج القيء فيه نظر ، ووجه النظر أن الحديث لم يشتمل إلا على مجرد فعل ، وهو لا يدل على الوجوب .
إذن طبَّق طالب العلم المقام الأول والمقام الثاني ، وانتهت المسألة على هذه الصورة ، ولا يحتاج إلى تطبيق المقام الثالث والرابع .
وقد تأتيه مسائل تتجاذب فيها الأحاديث ؛ فنأخذ مسألة ثانية من مسائل نقض الوضوء ، مثلاً حديث " من مس فرجه ؛ فليتوضأ "
نقول طبق القاعدة : بحث فوجد أن هذا الحديث مختلف فيه والراجح أنه حديث حسن فانتهى من الأصل الأول
يأتي إلى المقام الثاني : هل يصح الاستدلال به ؟
نقول: نعم الاستدلال به صحيح ، ظاهره يدل على أن الوضوء ينتقض بمس الفرج .
بعد ذلك يأتي للمقام الثالث : ينظر في السلامة من الناسخ ، هنا في هذا الحديث حكى بعض أهل العلم أنه منسوخ ، وأن الناسخ له حديث طَلْق رضي الله عنه قال :" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مس الفرج فقال : { هل هو إلا بضعة منك.
وقال بعض العلماء هذا الحديث متأخر وذاك الحديث متقدم فينسخ المتقدم بالمتأخر .
إذاً هذا الحديث الثاني نسخ الحديث الأول .
وتجد بعض العلماء يقول أنا لا أسلم القول بالنسخ لأن الأصل عدم النسخ لكن هذا الحديث يعارض الحديث الأول .
فينقل إلى المقام الرابع ؛ السلامة من المعارض ، فيقول : هذا الحديث يعارض الحديث الأول .
وأنا أجمع بينهما فأقول : من مس فرجه بشهوة ؛ انتقض وضوءه عملاً بحديث )من مس فرجه فليتوضأ (
ومن مس فرجه مثل أي عضو من أعضائه - أي بدون شهوة - فإن وضوءه لا ينتقض ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ) هل هو إلا بضعة منك(
وآخرون - ومنهم محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري - يقول : أحمل الحديث الأول على الاستحباب، لا على الوجوب ؛ بقرينة الحديث الثاني وأجمع بين الحديثين بهذه الطريقة ، وهذا اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية قال : " مس الفرج لا ينقض الوضوء ، إنما يستحب معه الوضوء ؛ جمعاً بين الحديثين " وهذا قاله محمد بن يحيى الذهلي كما حكاه عنه الحاكم في "معرفة علوم الحديث".
إذاً هذه مسائل العلم أي مسألة تطبق فيها هذه المقامات الأربع .والمقصود بهذا الأصل أن ترك مراعاة هذه المقامات عند النظر في المسائل العلمية يوقع طالب العلم في ما يسمى "بعدم التحرير للمسائل " ، ومن مهمات طالب العلم أن يسعى إلى تحير العلم الذي لديه، وذلك ممكن عن طريق مراعاة هذه المقامات عند النظر في كل مسألة، تعددت فيها الأقوال وتنوع فيها الاستدلال.
ويقصد بالنظر في ثبوت الدليل، أن ينظر الطالب في الدليل هل هو ثابت أم لا؟
فإذا كان الدليل آية قرآنية ؛ فالقرآن ثابت متواتر لا نظر فيه من جهة ثبوته.
وإذا كان الدليل حديثاً ؛ فإنه ينظر في ثبوت الحديث ودرجته من القبول والرد.
وإذا كان الدليل هو الإجماع ؛ ينظر في صحة ثبوت الإجماع، وأنه لا مخالف في المسألة.
وإذا كان قياساً ؛ نظر في صحة شروط القياس وثبوتها ؛ وإلا كان قياساً مع الفارق.
هذا مجمل ما يقصد بثبوت الدليل ، وتحت هذه الجملة تفاصيل كثيرة.
ويقصد بالنظر في صحة الاستدلال : أن ينظر هل الدليل مطابق للدعوى أم لا؟ فكم من مستدل بحديث صحيح لا يطابق دعواه، بل هناك من يستدل بآية قرآنية و لكنها لا تطابق دعواه ؛ وذلك لعدم صحة الاستدلال !!
ويقصد بالنظر في السلامة من الناسخ : أن ينظر هل هذا الدليل الذي استدل به على الدعوى ثابت محكم ، أو هو من قبيل المنسوخ؟ ويطبق في ذلك قواعد الناسخ والمنسوخ؟
ويقصد بالنظر في السلامة من المعارض : ألا يكون الدليل قد جاء ما يخالفه، فيطبق قاعدة مختلف الحديث ومشكله.
وبعد هذه المقامات يسلم له القول الراجح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق