الجمعة، 14 يونيو 2013

من أسباب محبة الله تعالى عبدًا

الحبُّ في الله تعالى وحبُّ الأنصار رضى الله عنهم

عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه وصدروا عن قوله؛ فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي.. قال فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله .. قال: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه، وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ"[1]. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن رجلاً زار أخًا له في قريةٍ أخرى فأرصَد اللهُ له على مدرجَتِه ملَكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غيرَ أني أحببته في الله - عز وجل -، قال: فإنِّي رسول الله إليك بأن اللهَ قد أحبَّك كما أحببته فيه"[2]. وعنه - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"[3]. وعنه - رضى الله عنه - أو عن أبي سعيد - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم "ورجلان تحابّا في الله فاجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه"[4].

وعن البراء - رضى الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصارُ لا يحبُّهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبَّهم أحبَّه اللهُ ومن أبغضَهم أبغضه الله"[5].

أولاً: الحب في الله تعالى:
في حديث معاذ - رضى الله عنه - أوجب الله تعالى على ذاته العلية محبته، وهي أفضل ما يتمناه ويحرزه امرؤٌ، لأربعة أصناف من الناس: المتحابين والمتجالسين والمتزاورين والمتباذلين فيه سبحانه، وزادت بعض الروايات على ذلك، وإن هذا ليسيرٌ على من يسَّره الله تعالى عليه، ولكنه عزيز في الناس مع ذلك، ألم تر إلى معاذٍ - رضى الله عنه -، وهو على صفته هذه المحبوبة للناس؛ بل قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأحبك"[6]، يهشَّ لمحبة غلام إيَّاه حتى يستحلفه ثلاث مرار على ذلك، وهو مفعم بالسرور؟! فلنحب بعضَنا في الله تعالى -معاشر المسلمين- ولنتجالس ونتزاور ونتباذل فيه سبحانه، لعله تعالى يحبنا فنكون من الفائزين.

وفي حديث أبي هريرة - رضى الله عنه - قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - "فأرصد الله على مدرجته ملَكا" معنى أرصَده أقعده يرقبُه، والمَدرَجة -بفتح الميم والراء- هي الطريق، سمِّيت بذلك لأن الناس يدرجون عليها؛ أي يمضون ويمشون. قوله "لك عليه من نعمة تربها"؛ أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك. قوله "بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" قال العلماء: محبّة الله عبده هي رحمته له ورضَاه عنه وإرادته له الخير، وأن يفعل به فعل المحب من الخير[7]، وأصل المحبة في حق العباد ميلُ القلب، والله تعالى منـزَّه عن ذلك. في هذا الحديث فضلُ المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحبِّ الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب، وفيه أن الآدميِّين قد يرون الملائكة[8].

وفي الحديث الثالث قال النووي أيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى "المتحابون بجلالي"؛ أي بعظمتي وطاعتي لا للدنيا. وقوله تعالى "يوم لا ظلّ إلا ظلِّي"؛ أي أنه لا يكون من له ظل مجازًا كما في الدنيا، وجاء في غير مسلم "ظلّ عرشي"، قال القاضي: ظاهرُه أنَّه في ظله من الحر والشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قولُ الأكثرين، وقال عيسى بن دينار: معناه كفّه من المكاره وإكرامه وجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم: السلطان ظلُّ الله في الأرض، وقيل يحتمل أن الظل هنا عبارةٌ عن الراحة والنعيم، يقال هو في عيش ظليل أي طيِّب[9].

وفي الحديث الرابع قال المباركفوري: قوله "سبعة"؛ أي سبعةُ أشخاص، "يظلُّهم الله"؛ أي يدخلهم "في ظلِّه"؛ قال عياض: إضافةُ الظل إلى الله إضافة مِلك[10]، وكل ظل فهو ملكه، قال الحافظ -في "الفتح"-: وكان حقّه أن يقول إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلَّها ملكه، وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلانٌ في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار وقوَّاه عياض، وقيل: المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه"[11] فذكر الحديث، قال: وإذا كان المراد العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنَفِ الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيِّده أيضًا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرَّح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود[12]، قال: وبهذا يندفع قولُ من قال المراد ظل طوبى أو ظل الجنَّة؛ لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إن ذلك مشتركٌ لجميع من يدخلها، والسياق يدلُّ على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش.. انتهى.

"ورجلان" مثلا، "تحابّا" -بتشديد الباء وأصله تحاببا- أي اشتركا في جنس المحبة، وأحبَّ كلٌّ منهما الآخر حقيقةً، لا إظهارًا فقط. "في الله"؛ أي لله أو في مرضاته. "فاجتمعا على ذلك"؛ أي على الحبِّ في الله إن "اجتمعا وتفرَّقا"؛ أي إن تفرقا يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة، وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارِض دنيويٍّ سواء اجتمعا حقيقةً أم لا حتى فرَّق بينهما الموت.

وعدت هذه الخَصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحدٍ كان عد أحدهما مغنيًا عن عدِّ الآخر؛ لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها[13].

ثانيًا: حب الأنصار - رضى الله عنهم -:
في حديث البراء - رضى الله عنه - قال الحافظ: الآية العلامة كما ترجم به المصنف[14]، ووقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العكبري أنه الإيمان -بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء- والإيمان مرفوع وأعربه فقال: أن للتأكيد والهاء ضمير الشأن والإيمان مبتدأ وما بعدَه خبر، ويكون التقدير أن الشأن الإيمان حبُّ الأنصار، وهذا تصحيفٌ منه، ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضي حصر الإيمان في حب الأنصار وليس كذلك، فإن قيل واللفظ المشهور أيضًا يقتضي الحصر وكذا ما أورده المصنف في فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب "الأنصار لا يحبُّهم إلا مؤمن"، فالجواب عن الأول أن العلامة كالخاصة تطَّرِد ولا تنعكِس؛ فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به سلمنا الحصر، لكنه ليس حقيقيًّا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة، والجواب عن الثاني أن غايته أن لا يقع حبُّ الأنصار إلا لمؤمن وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبُّهم فإن قيل فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقًا وإن صدق وأقرَّ؟ فالجواب أن ظاهر اللفظ يقتضيه لكنه غير مراد فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة وهي كونهم نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقِه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا الحمل زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب "من أحب الأنصار فبحبي أحبَّهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"[15]... وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعَه "لا يبغض الأنصار رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر"[16]، ولأحمد من حديثه "حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق"[17]، ويحتمل أن يقالَ: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهرُه؛ ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضدُّه، بل قابله بالنفاق إشارةً إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطِب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنَّه مرتكِبٌ ما هُو أشدُّ من ذلك[18].

قوله "الأنصار" هو جمع ناصِرٍ؛ كأصحابٍ وصاحب، أو جمع نصير كأشرافٍ وشريف، واللام فيه للعهد؛ أي أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يُعرفون ببني قَيْلة -بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة- وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، فصار ذلك علَمًا عليهم، وأُطلق أيضًا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخُصُّوا بهذه المنقَبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إيَّاهم في كثيرٍ من الأمور على أنفسهم؛ فكان صنيعُهم لذلك موجبًا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عربٍ وعجم، والعداوة تجرُّ البغض، ثم كان ما اختصُّوا به مما ذكر موجبًا للحسد، والحسد يجر البغض؛ فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبِّهم، حتى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق، تنويهًا بعظيم فضلهم وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركًا لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقِسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليٍّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له "لا يحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضك إلا منافق"[19] وهذا جارٍ باطِّراد في أعيان الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغَناء في الدين.. قال صاحب "المفهم": وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإنْ وقع من بعضِهم بغضٌ فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضُهم على بعضٍ بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم[20].

والنفاق إذا كان نفاقًا أكبر فهو شكلٌ من أشكال الكفر؛ لكن ينبغي هنا إدراكُ أنَّ من الناس من يبغض الأنصار لنصرتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو بهذا منافقٌ نفاقًا أكبر؛ لأنه أبغضَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً وكرِهَ نُصرتَه وظهوره فكَرِه دينه ومرسِلَه - عز وجل -، ومن الناس من لا يبغض الأنصار إنما يبغضُ أحدَهم أو بعضهم، لا نفاقًا وإنما لتقصيره في المعرفة بهم، فقد يَعرِف له موقفًا مناهضًا لمن أحبَّه؛ كموقف سعد بن عبادة والحباب بن المنذر يوم السقيفة؛ فقد كانا معارضين لتولِّي المهاجرين الخلافةَ، فهذا مقصِّرٌ في حقِّ القوم والمعرفة بهم غيرُ منافق.

خلاصة هذا السبب:
1- حبُّ الغير في الله تعالى؛ أيْ حب المسلم وكلٍّ على قدر تقواه، وبغض الكافر لبغضه لله تعالى.

2- حب الأنصار -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- في الله؛ إذ هم أوَّل من أحبَّ في الله.. أحبوا إخوانهم المهاجرين، فهذه سنَّتهم التي لهم -إن شاء الله- أجرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، بل إن حبَّهم لم يكن ادعاءً؛ فقد آووا ونصروا ومنعوا أولياء الله مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، فجزاهم الله خيرًا وألحقنا بهم، فوالله إنا نحبُّهم أن أحبُّوا أحِبّاءنا السابقين إلى كرامة الله - عز وجل -.




الخميس، 13 يونيو 2013

الإعجاز التربوي في آية

إن من صور الصحوة الإسلامية في الآونة الأخيرة: العودة إلى كتاب ربنا - القرآن الكريم - ومحاولة استخراج ما فيه من صُوَر الإعجاز المختلفة، لعلها تكون لنا نبراسًا نهتدي به في سبيل نهضتنا، والاستعانة بها في الدعوة الإسلامية لهداية البشرية، والأخذ بيدها لبر السلام.وتتعدد صُوَر الإعجاز في القرآن الكريم في كثيرٍ من المجالات، ومنها الإعجاز النبوي الذي يفيد الأمة في تربية أبنائها، وفي دعوة غيرها للحق والهداية، وفيما يلي لمحات تربوية من هذا الإعجاز في آية واحدة، وسيقتصر الحديث في ذلك فقط على دور المعلم والمتعلم في عملية التعليم والتعلم في هذه الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 260].
المُعلم في هذه الآية هو الله - جل جلاله - والمتعلم هو سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وقد بدأ الموقف التعليمي بسؤال من سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لربِّه: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾؟
 فهو الذي بادَر بطلب التعلُّم، مما يَنِمُّ عن رغبته في التعلم، ودافعيَّته لطلب العلم، كما يَنِمُّ عن الجرأة في الطلب، وعدم الخوف من أن يسأل ربه.
وقد كان الطلب بأسلوب فيه تأدُّب مع ربِّه بقوله: (رَبِّ)، كما أن فيه عاطفة الحب والود في هذا الخطاب؛ أي: إن هناك جوًّا من الحرية والمحبة والدفء العاطفي، الذي يسود الجو التعليمي، والذي هيَّأه الله لسيدنا إبراهيم - عليه السلام.لقد حدَّد سيدنا إبراهيم - عليه السلام - موضوع التعلُّم الذي يريده بنفسه، ولم يُفرض عليه، وهو (رؤية كيفية إحياء الله الموتى)، ولكن لماذا هذا الموضوع بالذات؟
إن المتأمل في الأحداث الجارية وقتها، يجد أن فرعون هذا الزمان (النمرود)، كان يدعي أنه يُحيي ويُميت، ونشر هذا الادعاء في أرجاء أهل البلاد، وكان هذا الموضوع محل اهتمام الجميع؛ حيث إنه يَمَس العقيدة، وكان سيدنا إبراهيم - عليه السلام - رسول الأمة الذي من مهمته تصحيح هذه العقيدة، فالموضوع يشغل بال الأمة وعلي رأسهم سيدنا إبراهيم - عليه السلام - ومن هنا كانت الحاجة ماسة لسيدنا إبراهيم لمزيد من العون من ربِّه؛ كي يتعلم كيفية محاجة النمرود؛ ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
ولذلك جاء السؤال بطلب رؤية كيفية إحياء الله الموتى، ومن هنا يتَّضح لنا وظيفية موضوع التعلم لكل من المتعلم (سيدنا إبراهيم) - عليه السلام - ولمجتمعه.
ويا لها من رَوعة أن يحدِّد المتعلم (سيدنا إبراهيم) - عليه السلام - بنفسه أيضًا كيفية عملية التعلم، وهي الرؤية؛ أي: المشاهدة بأُمِّ عينيه، وليس الكلام النظري، فلم يقتصر الطلب على تحديد موضوع التعلم فقط، بل تعدَّاه إلى تحديد كيفية التعلم، كما لم يقتصر موضوع التعلم على عملية إحياء الموتى، بل تعدَّاه أيضًا إلى كيفية الإحياء.ولكن بماذا أجاب الله عن سؤال سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لم يُعطه الله الإجابة فورًا، بل سأله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ [البقرة: 260]؟
إن هذا السؤال ليس سؤالاً استنكاريًّا، إن هذا السؤال من المنظور التربوي يُثير في المتعلم التشوُّق أكثر والتحمُّس لتلقِّي الإجابة، كما أنه يعمل على تحديد مستوى التعلم الذي عند المتعلم (مستوى علم اليقين)، وهذا ما أوضحته إجابة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بقوله: ﴿ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260].
إن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - كان يعلم علم اليقين أن الله هو الذي يُحيي ويميت، وهذا واضح من قوله: بلى، ولكن قوله: ليطمئن قلبي دَلالة على رغبته في الوصول إلى مستوى أعلى من التعلُّم، وهو مستوى عين اليقين، وهذا واضح من سؤاله - عليه السلام - في قوله في بداية الموقف التعليمي: أرِني، وهذا يدل على طموح المتعلم للوصول إلى المستويات الأعلى من التعلم.
لقد تضمنت عملية التعليم والتعلم أسلوبَ الحوار الهادف الذي يكشف لكل من المعلم والمتعلم ما يريده كلٌّ من الآخر، فتنكشف مكنونات المتعلم للمعلم، ويحدِّد المتعلم ما يريده من المعلم، وهنا يسود التفاهم والإقناع في عملية التعلم للمتعلم، دون الإجبار والقمع والتسلُّط من جانب المعلم للمتعلم.
ولكن بعد هذا الحوار، أين الإجابة عن سؤال سيدنا إبراهيم - عليه السلام - من ربه؟لم تكن هناك إجابة بالشكل المباشر، ولكن الله كلَّف سيدنا إبراهيم - عليه السلام - بعدة تكليفات يقوم بعملها بنفسه: فَخُذْ، فَصُرْهُنَّ، ثُمَّ اجْعَلْ، ثُمَّ ادْعُهُنَّ، وَاعْلَمْ.
هنا تبرز العديد من الإبداعات التربوية؛ منها:
أن المعلم قد فعَّل المتعلم وجعَله نَشِطًا بقيامه بهذه الأفعال.
 تنوع هذه الأفعال تجدد من نشاط المتعلم وتُبعد عنه الملل والخمول.
 استخدام أكثر من حاسة أو جارحة: اللمس، والسمع، والبصر، والأيد، والأرجل، واللسان، والعقل، مما يزيد من فعالية عملية التعلم.
 استخدام حرف الفاء في الفعلين: فَخُذْ، وفصُرهنَّ، يفيد سرعة تلبية المعلم للمتعلم في الاستجابة له.
أما استخدام (ثم) قبل الفعلين: اجعل، وادعهنَّ، يفيد تمهُّل المعلم على المتعلم في أداء الأفعال، خاصة وأنه سيصعد على الجبال ثم ينزل من عليه، وفي هذا رأفة ورحمة من المعلم بالمتعلم، رغم وجود الدافعية الذاتية لدى المتعلم، وزيادة تشويق المعلم له من قبلُ.
 واستخدام واو العطف في الفعل الأخير (واعلم)، تفيد إرشاد المعلم للمتعلم بضرورة إمعان التفكير في كل فعلٍ يقوم به المتعلم في الأفعال السابقة؛ مما يشير إلى إعلاء قيمة العقل في عملية التعلم، ودوره في كل خطوات التعلم.
لقد تَمَّ استخدام الطريقة العملية في عملية التدريس، وهي من أكثر الطرق إقناعًا للمتعلم؛ حيث قام المتعلم بإجراء التجربة بنفسه خطوة بخطوة، وشاهد نتائج كل خطوة، ثم توصل إلى النتيجة النهائية، وكل هذا من خلال مشاهدة الحقائق التي لا يستطيع أحد إنكارها، كما أن هذه الطريقة تفيد كثيرًا في تنمية التفكير، وهو ما يتمشَّى مع الهدف المنشود من عملية التعلم في هذا الموقف (تعلم الكيفية).
إن استخدام الحقائق الكونية في هذه التجربة للتوصل إلى الأمور المجردة، تكون أجدى في مخاطبة العقل البشري، فمن اللافت للنظر استخدام الله للطير كوسيلة تعليمية في هذا الموقف؛ مما يتناسب مع موضوع التعلم؛ حيث تظهر الحياة في حركة الطير وهي طائرة، كما لا يستطيع أحد الإمساك بها وهى طائرة إلا الله كما يتَّضح ذلك في قوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ﴾ [الملك: 19].
وبذلك يكون استخدام الطير أجدى في إبراز حقيقة الحياة وهي طائرة بعد أن كانت في حالة موت، كما أن الطير محبَّبة للنفس البشرية؛ مما يجعل لها قبولاً لدى المتعلم عند استخدامها.
إن توفُّر مثل هذه المبادئ التربوية في عملية التعلم، هو الذي يسمَّى الآن بالتعلم النَّشِط، والذي عانت الحضارة الغربية عقودًا طويلة للوصول إليه بالبحث العلمي، رغم وجوده بين أيدينا في الكتاب المعجز (القرآن الكريم).
لقد كان دور المعلم في هذا الموقف التعليمي دور: الموجه والمرشد، والمحفز والميسر للمتعلم، حتى بلوغ الهدف من عملية التعلم، وهذا ما يسمى بالتدريس الفعَّال في وقتنا الحاضر، طبقًا لما يسمى بالاتجاهات التربوية الحديثة، وهذا ما أتى به الكتاب المعجز (القرآن الكريم) منذ قرون عديدة، فهل هي اتجاهات حديثة؟ أم نحن الغافلون عنها؟
لم يقتصر هدف الله (المعلم) في الموقف التعليمي على هدف سيدنا إبراهيم - عليه السلام - (المتعلم)، وهو (رؤية إحياء الله للموتى)، بل تعدَّاه إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو إخباره (أن الله عزيز حكيم)، وهنا تبرز عظمة المعلم في استخدام هدف المتعلم للوصول إلى أهداف أكبر وأعمَّ.
مدى نجاح هذا الموقف التعليمي في تحقيق أهدافه:
إن نجاح أي عملية تعليم وتعلُّم يُقاس في الغالب بالنتائج المترتبة عليها، وبالنسبة للموقف الذي نحن بصدده الآن، هناك موقفان بارزان يُظهران مدى هذا النجاح:
الموقف الأول: محاجة سيدنا إبراهيم - عليه السلام -للنمرود:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
في هذا الموقف ظهرت براعة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - في دَحْض حُجة النمرود في أنه يحيي ويميت، فلقد تعلَّم من ربه كيف يُمعن التفكير ويستخدم عقله، ويستخدم الأدلة (الحقائق) التي لا يمكن لأحد إنكارها.
فقد ذكر سيد قطب في الظلال أنه عندما قال النمرود:
أنا أحيي وأُميت، عند ذلك لم يُرِد إبراهيم - عليه السلام - أن يَسترسل في جدلٍ حول معنى الإحياء، وعدَل عن هذه السنة الكونية الخفيَّة إلى سُنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدَل عن طريقة العرض المجرَّد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾ [البقرة: 258]، إلى قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 258]، وهي حقيقة كونية مُكرورة؛ تطالع الأنظار والمدارك كلَّ يوم، ولا تتخلف مرة ولا تتأخر، وهي شاهد يخاطب الفطرة، ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدَل.
وهنا يقول طنطاوي في الوسيط: فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذَفها إبراهيم - عليه السلام - في وجه خَصمه؟ كانت نتيجتها - كما حكى القرآن -: ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: غُلب وقُهِر، وتحيَّر وانقطع عن حجاجه، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم؛ لأنه فوجئ بما لا يَملِك دفْعه.
الموقف الثاني: حوار سيدنا إبراهيم - عليه السلام -مع أبيه وقومه؛ لإبطال عبادة الأوثان، وحاله أثناء وضْعه في النار.
لقد تجلَّت براعة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - في هذا الموقف في حواره لقومه، وقوة استخدامه للحجج، بالاستعانة بالحقائق المادية المحسوسة للإقناع، ودحض الحُجج الباطلة التي استخدموها، وتعبر الآيات هنا عن ذلك بوضوح: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51]، ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 52]، ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53]، ﴿ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنبياء: 54]، ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 55]، ﴿ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 56]، ﴿ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴾ [الأنبياء: 57]، ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]، ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 59]، ﴿ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 60]، ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]، ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 62]، ﴿ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 63]، ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنبياء: 64]، ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 65]، ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ ﴾ [الأنبياء: 66]، ﴿ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 67]، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، ﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 70].
وتوضح لنا الآيات أن الله - عز وجل - قد علَّم سيدنا إبراهيم - من قبل ذلك - النظر والاستدلال على الحق: ﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51].
وكما اتَّضح لنا من قبلُ أن إبراهيم - عليه السلام - قد وصل في علمه إلى مستوى عين اليقين في أن الله هو الذي يحيي ويميت، عندما أراه ربُّه كيفية إحياء الموتى، ومن هنا كان ثباته وشجاعته ورباطة جأْشه عندما أُلقي في النار، فهو الذي وضع نفسه في موضع الإحياء والإماتة الآن، وهنا في هذا الموقف الجديد وصل سيدنا إبراهيم إلى مستوى حق اليقين.
وقد ذكر الطنطاوي في الوسيط أن المفسرين قالوا: إن إبراهيم - عليه السلام - حين جيء به إلى النار، قالت الملائكة: يا ربَّنا، ما في الأرض أحد يعبدك سوى إبراهيم، وأنه الآن يُحرق، فأذَنْ لنا في نُصرته! فقال - سبحانه -: إن استغاث بأحد منكم، فليَنصره، وإن لم يَدع غيري، فأنا أعلم به، وأنا وليُّه، فخلُّوا بيني وبينه، فهو خليلي، ليس لي خليل غيره.
فأتى جبريل - عليه السلام - إلى إبراهيم، فقال له: ألَك حاجة؟ فقال إبراهيم: أمَّا إليك، فلا، وأما إلى الله فنعم! فقال له جبريل: فلِمَ لا تسأله؟ فقال إبراهيم - عليه السلام -: حَسْبي من سؤالي علمه بحالي.




السبت، 8 يونيو 2013

استشارات اجتماعية

السؤال
أنا شخصٌ جميل المظهر، لكن أهلي بُخلاء عليَّ، أبي يفعل كل شيء للناس، ويخدم كل الناس الغرباء، بل وصل به الحال أن بنى بيتًا لأحد الأقارب، ولا يقدِّم لي شيئًا أو مُساعدةً! بل هدَّدني أكثر مِن مرة بالطرد خارج البيت!أنا معي شهادة جامعيَّةٌ، لكني لا أحب أن أعمل لدى أحدٍ، وهو لا يساعدني في العمل، أو في الزواج!
 كيف أملك عملًا بشهادتي، والوضع في بلدي صعبٌ؟ ولا يمكن أن يقبلوني بشهادتي فقط، بل لا بد مِن شهادات أخرى مع وساطة!
 أفكِّر في السرقة كحلٍّ لكل مشاكلي، أرجو نصحي في هذا: هل أسرق أو لا؟ مع علمي بأنَّ السرقة ربما تؤدِّي إلى سجني؟

الجواب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخي الشابّ، سأطرح عليك بعض التساؤلات؛ لتستبصرَ أنت بمشكلتك، فأنت شابٌّ ومتعلمٌ، ولديك حِسٌّ وذكاء مما دعاك للاستشارة، أسأل الله أن ينفعَ ويبارك فيك.
 لمَ يتصرَّف والدُك بهذه الطريقة؟
 لمَ والدُك بَنَى بيتًا لفلان؟
 سلْ نفسك:
ما الأشياء التي لو عملتُها رَضِي عني والدي وساعدني؟
 ما القيمة الإضافية التي عليَّ امتلاكها كي أتميزَ ويُقْبِل على توظيفي أصحابُ المشاريع؟
 لو كنتُ يتيمَ الأب، ما الذي عليَّ فِعْله لأعمل وأبني بيتًا وأتزوَّج؟
 تساؤلاتٌ عديدةٌ اسألها لنفسك، ومحاكماتٌ عقلية فكِّر فيها مَلِيًّا؛ لتجدَ الحلول المناسبة لمشكلتك.
 يفَكِّر معظمُ البشر في حدود "ما لا يمكنني"، وأنا أدعوك للتفكير فيما "يُمكنك" تغييرُه أو تعديله أو الإضافة عليه لتحسنه، ومِن ثَمَّ تحسين حياتك ككل.
 أُقَدِّر مشاعر الغضب والإحباط التي تعتريك، لكنك شابٌّ في مُقتبل الحياة، وتمتلك الكثيرَ مِن النِّعَم التي ربما لتعوُّدك عليها لم تعدْ تشعر بوجودها، لكني أدعوك لتكون أنت التغيير الذي تريد، والله - عز وجل - لا يظلم أحدًا أبدًا؛ أعطانا العدة والمَدَد، وعلينا التزوُّد منها، والتوكُّل عليه - سبحانه - مع العمل والجد للوصول للغاية.
ومما يُعينك - بعد توفيق الله - على تطوير علاقتك بالوالد ما يلي:
1 - اللجوء إلى مَن يُجيب المضطر إذا دعاه.

2 - الاقتراب مِن الوالد، وكسْر الحاجز الذي بينك وبينه.

3 - المشاركة في تقديم الطعام والشراب له.

4 - سؤاله عن أحواله وصحته وعن الأشياء التي ترضيه.

5 - إشعار الوالد بمُعاناتك حتى تصلَ مشاعرُك للوالد.

6 - شُكره على كلِّ خطوة إلى الأمام.

7 - إخباره بما يتحقق لك بتوفيق الله مِن نجاح وفلاحٍ.

8 - زيادة البر والاحترام.

9 - الإحسان إلى إخوانك ووالدتك وأهل بيتك.

10 - الاجتهاد في طاعة الله؛ فإنَّ ثمرة الطاعة المحبة في قلوب الخَلْق؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96]، مع ضرورة عدم إعطاء الأمر أكبر مِن حجمه، والتماس العُذر لتصرفات الوالد، وتأكَّد أن الأب لا يحب أي إنسان على وجه الأرض أكثر مِن أبنائه، ولو بَدَا غير ذلك!

عليك أن تعلمَ أنَّ الله ذو حكمة بالغة، فقد يُفقر بعض الناس لعلمِه - سبحانه - أنه لو أغناهم لطَغَوْا وأفسدوا، إضافة إلى أنك تصف نفسك بالجميل، فاللهُ أعطاك نعمةً، وسلب منك أخرى؛ لحكمةٍ يعلمها، وعليك حمد الله وشكره على نِعَمِه؛ ليُديمها ويزيدها.
ولكن ذلك كله لا يُبَرِّر لك أن تسرقَ، مهما كان المبلغُ ضئيلًا؛ فذلك محرَّمٌ شرعًا، ثم إنه يُسلِّط عليك السُّمعة السيئةَ، فلا تقدر على الزواج، ولا مخالطة الناس، فلو افترضنا أنه كلما احتاج شخصٌ مالًا سرَق، إذن لصارت الدنيا في مشاكل لا تنتهي.
 والسرقةُ محرَّمة بالكتاب والسنة والإجماع، وقد ذَمَّ الله هذا الفعل الشنيعَ، وجعل له عقوبةً تُناسبه؛ فجعل حد السارق أن تُقْطَعَ يدُه؛ قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا))؛ رواه البخاري، (الحدود/6291)، ولعن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السارقَ؛ لأنه عنصرٌ فاسدٌ في المجتمع، إذا تُرِك سرى فسادُه، وتعدَّى إلى غيره في جسم الأمة؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده))؛ البخاري، (الحدود/6285)، ومما يدلُّ على أن هذا الحكم مُؤَكَّد: أنَّ امرأةً مخزوميَّةً شريفةً سرَقَتْ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أسامة بن زيد أن يشفعَ فيها؛ فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((أتشفع في حدٍّ مِن حدود الله، إنما أهلك الذين مِن قبلكم: كانوا إذا سرق فيهم الغنيُّ تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله، لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقتْ لقطعتُ يدها))؛ البخاري (أحاديث الأنبياء/3216).
 وما دمت قادرًا على العمل، ولديك مؤهلات، فلِمَ الكسل؟ أأنت أكرم مِن خير البشر؟ أأنت أكرم من الأنبياء؟ كل الأنبياء عملوا وكسبوا من أيديهم، فمنهم مَن عمل راعيًا، ومنهم مَن عمل خيَّاطًا، ومنهم مَن كان حدَّادًا... وهَلُمَّ جرًّا، فلا تحتقر العمل مهما كان بسيطًا وعاديًّا.
 فكِسرةٌ من عمل حلال أفضل وأكثر بركةً مِن كنوز عظيمةٍ، لكنها سُحت لحُرمةِ مصدرها.
 وبإمكانك أيضًا أن تستدين مبلغًا تقدر على سداده مِن والدك مثلًا لتكمل دراستك العليا، أو تُطَوِّر من خبراتك ومعارفك، فكما قلت أنت: لا يقبلون العمل بالشهادة فقط، فكلما زادتْ معرفتك زاد عددُ الراغبين في توظيفك.
 وتذكَّر أنَّ والدَك ليس مَسؤُولًا عنك حتى مماتك، فها أنت قد صِرْتَ رجلًا، فكُنْ على قدر المقام والمسؤولية.
 وأسأل الله أن يُطَهِّرَ قلبك، ويُيَسِّر أمرك، وأن يبشِّرك بما يسعدك ويَسُرُّك



الثلاثاء، 4 يونيو 2013

البدعة في الدين ...

لا يسلم القلب حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، ومن بدعة تناقض السنة، والأعمال لا تقبل إلا ما كان لله خالصاً صواباً، و موافقاً لسنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31] وقال - صلى الله عليه وسلم -:- (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، أخرجه أبو داود والترمذي".
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة، وما من خير إلا دلنا عليه وما من شر إلا وحذرنا منه، ولقد زين الشيطان لجهل كثير من المسلمين وميلهم لهوى أنفسهم البدع فزين لهم ما ليس بمشروع   وحسن لهم ما ليس بمحمود.
وقد يدافعون عن الباطل ويتمسكون به لهوى في النفس أو عصبية لمذهب أو لجهل في الفهم وعدم الرجوع لأهل العلم الراسخين.
وليس هناك أشد ضررا على الأمة وعلى الفرد بعد الشرك من البدع المحدثة في دين الله، إذ هي أصل الانحراف وتفكك الأمة وهوانها.
ولقد جاءت النصوص والأدلة الكثيرة على وجوب اتباع سنة رسول الله" وعدم الميل عنها، قال تعالى ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [آل عمران: 106]، قال بن عباس في تفسير هذه الآية: (تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدع) قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [الأنعام: 159]، قال عائشة ((هم أصحاب الأهواء والبِدَع والضلالة من هذه الأمة)).
ولقد حذر النبي أمته من الابتِداع أشدَّ التحذير، وأوصاهم باتّباع سنّته وسنّة خلفائه الراشدين، ففي الصحيحين [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد].
ولقد سار على نهجه واستمسك بهديه سلف هذه الأمة فهذا خليفته وصاحبه أبوبكر يقول: [إنما أنا متّبِع وليس بمبتدع فإن استقمتُ فتابِعوني وإن زغتُ فقوِّموني]، وفي سنن ابي داود عن حذيفة [كلُّ عبادة لا يتعبَّدُها أصحابُ رسول الله فلا تعبَّدُوها؛ فإنَّ الأوّل لم يدَع للآخرِ مقالاً]، ويقول الجنيد: "الطرُقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلا على من اقتفَى أثرَ الرسول، ولا مقامَ أشرف من مقام متابعةِ الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه".
أيها المسلمون:
فكلّ مَن أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجِع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه وسواء ذلك في مسائِلِ الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة".
والإمام مالك صاحب المذهب المالكي يقول: "من ابتدَع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمّدًا خان الرسالة، لأنّ الله يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
فاتقوا الله -عباد الله- واتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، والخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع، قال سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا وَالْمَعْصِيَةُ يُتَابُ مِنْهَا.