الجمعة، 14 يونيو 2013

من أسباب محبة الله تعالى عبدًا

الحبُّ في الله تعالى وحبُّ الأنصار رضى الله عنهم

عن أبي إدريس الخولاني أنه قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوا إليه وصدروا عن قوله؛ فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي.. قال فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله .. قال: فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه، وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ"[1]. وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن رجلاً زار أخًا له في قريةٍ أخرى فأرصَد اللهُ له على مدرجَتِه ملَكًا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربُّها؟ قال: لا، غيرَ أني أحببته في الله - عز وجل -، قال: فإنِّي رسول الله إليك بأن اللهَ قد أحبَّك كما أحببته فيه"[2]. وعنه - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"[3]. وعنه - رضى الله عنه - أو عن أبي سعيد - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم "ورجلان تحابّا في الله فاجتمعا على ذلك وتفرَّقا عليه"[4].

وعن البراء - رضى الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأنصارُ لا يحبُّهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبَّهم أحبَّه اللهُ ومن أبغضَهم أبغضه الله"[5].

أولاً: الحب في الله تعالى:
في حديث معاذ - رضى الله عنه - أوجب الله تعالى على ذاته العلية محبته، وهي أفضل ما يتمناه ويحرزه امرؤٌ، لأربعة أصناف من الناس: المتحابين والمتجالسين والمتزاورين والمتباذلين فيه سبحانه، وزادت بعض الروايات على ذلك، وإن هذا ليسيرٌ على من يسَّره الله تعالى عليه، ولكنه عزيز في الناس مع ذلك، ألم تر إلى معاذٍ - رضى الله عنه -، وهو على صفته هذه المحبوبة للناس؛ بل قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأحبك"[6]، يهشَّ لمحبة غلام إيَّاه حتى يستحلفه ثلاث مرار على ذلك، وهو مفعم بالسرور؟! فلنحب بعضَنا في الله تعالى -معاشر المسلمين- ولنتجالس ونتزاور ونتباذل فيه سبحانه، لعله تعالى يحبنا فنكون من الفائزين.

وفي حديث أبي هريرة - رضى الله عنه - قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم - "فأرصد الله على مدرجته ملَكا" معنى أرصَده أقعده يرقبُه، والمَدرَجة -بفتح الميم والراء- هي الطريق، سمِّيت بذلك لأن الناس يدرجون عليها؛ أي يمضون ويمشون. قوله "لك عليه من نعمة تربها"؛ أي تقوم بإصلاحها وتنهض إليه بسبب ذلك. قوله "بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه" قال العلماء: محبّة الله عبده هي رحمته له ورضَاه عنه وإرادته له الخير، وأن يفعل به فعل المحب من الخير[7]، وأصل المحبة في حق العباد ميلُ القلب، والله تعالى منـزَّه عن ذلك. في هذا الحديث فضلُ المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحبِّ الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب، وفيه أن الآدميِّين قد يرون الملائكة[8].

وفي الحديث الثالث قال النووي أيضًا: قوله - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى "المتحابون بجلالي"؛ أي بعظمتي وطاعتي لا للدنيا. وقوله تعالى "يوم لا ظلّ إلا ظلِّي"؛ أي أنه لا يكون من له ظل مجازًا كما في الدنيا، وجاء في غير مسلم "ظلّ عرشي"، قال القاضي: ظاهرُه أنَّه في ظله من الحر والشمس ووهج الموقف وأنفاس الخلق، قال: وهذا قولُ الأكثرين، وقال عيسى بن دينار: معناه كفّه من المكاره وإكرامه وجعله في كنفه وستره، ومنه قولهم: السلطان ظلُّ الله في الأرض، وقيل يحتمل أن الظل هنا عبارةٌ عن الراحة والنعيم، يقال هو في عيش ظليل أي طيِّب[9].

وفي الحديث الرابع قال المباركفوري: قوله "سبعة"؛ أي سبعةُ أشخاص، "يظلُّهم الله"؛ أي يدخلهم "في ظلِّه"؛ قال عياض: إضافةُ الظل إلى الله إضافة مِلك[10]، وكل ظل فهو ملكه، قال الحافظ -في "الفتح"-: وكان حقّه أن يقول إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره، كما قيل للكعبة بيت الله مع أن المساجد كلَّها ملكه، وقيل المراد بظله كرامته وحمايته كما يقال فلانٌ في ظل الملك وهو قول عيسى بن دينار وقوَّاه عياض، وقيل: المراد ظل عرشه، ويدل عليه حديث سلمان عند سعيد بن منصور بإسناد حسن "سبعة يظلهم الله في ظل عرشه"[11] فذكر الحديث، قال: وإذا كان المراد العرش استلزم ما ذكر من كونهم في كنَفِ الله وكرامته من غير عكس، فهو أرجح، وبه جزم القرطبي، ويؤيِّده أيضًا تقييد ذلك بيوم القيامة كما صرَّح به ابن المبارك في روايته عن عبيد الله بن عمر وهو عند المصنف في كتاب الحدود[12]، قال: وبهذا يندفع قولُ من قال المراد ظل طوبى أو ظل الجنَّة؛ لأن ظلهما إنما يحصل لهم بعد الاستقرار في الجنة، ثم إن ذلك مشتركٌ لجميع من يدخلها، والسياق يدلُّ على امتياز أصحاب الخصال المذكورة، فيرجح أن المراد ظل العرش.. انتهى.

"ورجلان" مثلا، "تحابّا" -بتشديد الباء وأصله تحاببا- أي اشتركا في جنس المحبة، وأحبَّ كلٌّ منهما الآخر حقيقةً، لا إظهارًا فقط. "في الله"؛ أي لله أو في مرضاته. "فاجتمعا على ذلك"؛ أي على الحبِّ في الله إن "اجتمعا وتفرَّقا"؛ أي إن تفرقا يعني يحفظان الحب في الحضور والغيبة، وقال الحافظ: والمراد أنهما داما على المحبة الدينية ولم يقطعاها بعارِض دنيويٍّ سواء اجتمعا حقيقةً أم لا حتى فرَّق بينهما الموت.

وعدت هذه الخَصلة واحدة مع أن متعاطيها اثنان؛ لأن المحبة لا تتم إلا باثنين، أو لما كان المتحابان بمعنى واحدٍ كان عد أحدهما مغنيًا عن عدِّ الآخر؛ لأن الغرض عد الخصال لا عد جميع من اتصف بها[13].

ثانيًا: حب الأنصار - رضى الله عنهم -:
في حديث البراء - رضى الله عنه - قال الحافظ: الآية العلامة كما ترجم به المصنف[14]، ووقع في إعراب الحديث لأبي البقاء العكبري أنه الإيمان -بهمزة مكسورة ونون مشددة وهاء- والإيمان مرفوع وأعربه فقال: أن للتأكيد والهاء ضمير الشأن والإيمان مبتدأ وما بعدَه خبر، ويكون التقدير أن الشأن الإيمان حبُّ الأنصار، وهذا تصحيفٌ منه، ثم فيه نظر من جهة المعنى لأنه يقتضي حصر الإيمان في حب الأنصار وليس كذلك، فإن قيل واللفظ المشهور أيضًا يقتضي الحصر وكذا ما أورده المصنف في فضائل الأنصار من حديث البراء بن عازب "الأنصار لا يحبُّهم إلا مؤمن"، فالجواب عن الأول أن العلامة كالخاصة تطَّرِد ولا تنعكِس؛ فإن أخذ من طريق المفهوم فهو مفهوم لقب لا عبرة به سلمنا الحصر، لكنه ليس حقيقيًّا بل ادعائيا للمبالغة، أو هو حقيقي لكنه خاص بمن أبغضهم من حيث النصرة، والجواب عن الثاني أن غايته أن لا يقع حبُّ الأنصار إلا لمؤمن وليس فيه نفي الإيمان عمن لم يقع منه ذلك، بل فيه أن غير المؤمن لا يحبُّهم فإن قيل فعلى الشق الثاني هل يكون من أبغضهم منافقًا وإن صدق وأقرَّ؟ فالجواب أن ظاهر اللفظ يقتضيه لكنه غير مراد فيحمل على تقييد البغض بالجهة، فمن أبغضهم من جهة هذه الصفة وهي كونهم نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثر ذلك في تصديقِه، فيصح أنه منافق، ويقرب هذا الحمل زيادة أبي نعيم في المستخرج في حديث البراء بن عازب "من أحب الأنصار فبحبي أحبَّهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم"[15]... وقد أخرج مسلم من حديث أبي سعيد رفعَه "لا يبغض الأنصار رجلٌ يؤمن بالله واليوم الآخر"[16]، ولأحمد من حديثه "حب الأنصار إيمان وبغضهم نفاق"[17]، ويحتمل أن يقالَ: إن اللفظ خرج على معنى التحذير فلا يراد ظاهرُه؛ ومن ثم لم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضدُّه، بل قابله بالنفاق إشارةً إلى أن الترغيب والترهيب إنما خوطِب به من يظهر الإيمان، أما من يظهر الكفر فلا؛ لأنَّه مرتكِبٌ ما هُو أشدُّ من ذلك[18].

قوله "الأنصار" هو جمع ناصِرٍ؛ كأصحابٍ وصاحب، أو جمع نصير كأشرافٍ وشريف، واللام فيه للعهد؛ أي أنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يُعرفون ببني قَيْلة -بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة- وهي الأم التي تجمع القبيلتين، فسماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار، فصار ذلك علَمًا عليهم، وأُطلق أيضًا على أولادهم وحلفائهم ومواليهم. وخُصُّوا بهذه المنقَبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، وإيثارهم إيَّاهم في كثيرٍ من الأمور على أنفسهم؛ فكان صنيعُهم لذلك موجبًا لمعاداتهم جميع الفرق الموجودين من عربٍ وعجم، والعداوة تجرُّ البغض، ثم كان ما اختصُّوا به مما ذكر موجبًا للحسد، والحسد يجر البغض؛ فلهذا جاء التحذير من بغضهم والترغيب في حبِّهم، حتى جعل ذلك آيةَ الإيمان والنفاق، تنويهًا بعظيم فضلهم وتنبيها على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في معنى ذلك مشاركًا لهم في الفضل المذكور كلٌّ بقِسطه، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عليٍّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له "لا يحبُّك إلا مؤمنٌ ولا يبغضك إلا منافق"[19] وهذا جارٍ باطِّراد في أعيان الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغَناء في الدين.. قال صاحب "المفهم": وأمَّا الحروب الواقعة بينهم فإنْ وقع من بعضِهم بغضٌ فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضُهم على بعضٍ بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذاك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجرٌ واحد، والله أعلم[20].

والنفاق إذا كان نفاقًا أكبر فهو شكلٌ من أشكال الكفر؛ لكن ينبغي هنا إدراكُ أنَّ من الناس من يبغض الأنصار لنصرتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو بهذا منافقٌ نفاقًا أكبر؛ لأنه أبغضَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً وكرِهَ نُصرتَه وظهوره فكَرِه دينه ومرسِلَه - عز وجل -، ومن الناس من لا يبغض الأنصار إنما يبغضُ أحدَهم أو بعضهم، لا نفاقًا وإنما لتقصيره في المعرفة بهم، فقد يَعرِف له موقفًا مناهضًا لمن أحبَّه؛ كموقف سعد بن عبادة والحباب بن المنذر يوم السقيفة؛ فقد كانا معارضين لتولِّي المهاجرين الخلافةَ، فهذا مقصِّرٌ في حقِّ القوم والمعرفة بهم غيرُ منافق.

خلاصة هذا السبب:
1- حبُّ الغير في الله تعالى؛ أيْ حب المسلم وكلٍّ على قدر تقواه، وبغض الكافر لبغضه لله تعالى.

2- حب الأنصار -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم- في الله؛ إذ هم أوَّل من أحبَّ في الله.. أحبوا إخوانهم المهاجرين، فهذه سنَّتهم التي لهم -إن شاء الله- أجرُها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، بل إن حبَّهم لم يكن ادعاءً؛ فقد آووا ونصروا ومنعوا أولياء الله مما يمنعون منه أنفسهم وأولادهم، فجزاهم الله خيرًا وألحقنا بهم، فوالله إنا نحبُّهم أن أحبُّوا أحِبّاءنا السابقين إلى كرامة الله - عز وجل -.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق